الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: من الآية89].
* * *
قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم}. هذه الآية ذكرها الله في سياق كفارة اليمين، وكل يمين لها ابتداء وانتهاء ووسط، فالابتداء الحلف، والانتهاء الكفارة، والوسط الحنث، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، وعلى هذا كل يمين على شيء ماض فلا حنث فيه، ومالا حنث فيه كفارة فيه، لكن إن كان صادقا، فقد بر، وإلا، فهو آثم، لأن الكفارة لا تكون إلا على شيء مستقبل.
وهل يجوز أن يحلف على ما في ظنه؟
الجواب: نعم، ولذلك أدلة كثيرة، منها قول المجامع في نهار رمضان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
لكن إن حلفت على مستقبل بناء على غلبة الظن ولم يحصل، فقيل: تلزمك كفارة، وقيل: لا تلزمك كفارة، وقيل: لا تلزمك، وهو الصحيح، كما لو حلفت على ماض.
مثاله: فلو قلت: والله،، ليقدمن زيد غدا. بناء على ظنك، فلم يقدم، فالصحيح أنه لا كفارة عليك، لأنك حلفت على ما في قلبك وهو حاصل، كأنك تقول: والله، إن هذا هو ظني، لكن هل يجوز لك أن تحلف على ما في ظنك؟ سبق ذلك تقريبا.
إذن قوله: {واحفظوا أيمانكم} بعد أن ذكر اليمين والكفارة والحنث، فما المراد بحفظ اليمين: هل هو الابتداء أو الانتهاء أو الوسط؟ أي: هل المراد لا تكثروا الحلف بالله؟ أو المراد: إذا حلفتم فلا تحنثوا؟ أو المراد: إذا حلفتم فحنثتم فلا تتركوا الكفارة؟
الجواب: المراد كله، فتشمل أحوال اليمين الثلاثة، ولهذا جاء المؤلف بها في هذا الباب، لأن من معنى حفظ اليمين عدم كثرة الحل، وإليك قاعدة مهمة في هذا، وهي أن النص من قرآن أو سنة إذا كان يحتمل عدة معاني لا ينافي بعضها بعضا ولا مرجح لأحدها، وجب حمله على المعاني كلها.
والمراد بعدم كثرة الحلف: ما كان معقودا و مقصودا، أما ما يجرى على اللسان بلا قصد، مثل: لا والله، وبلى والله، في عرض الحديث، فلا مؤاخذة فيه لقوله تعالى:
وكذلك من حفظ اليمين عدم الحنث فيها، وهذا تفصيل، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعبد الرحمن بن سمرة:
] ، فحفظ اليمين إلى الحنث أن لا يحنث إلا إذا كان خيرا، وإلا، فالأحسن حفظ اليمين وعد الحنث.
مثال ذلك: رجل قال: لا أكلم فلانا. وهو من المؤمنين الذين يحرم هجرهم، فهذا يجب أن يحنث في يمينه ويكلمه وعليه الكفارة.
مثال آخر: رجل قال: والله لأعينن فلانا على شيء محرم. فهذا يجب الحنث فيه والكفارة، و لا يعينه، لقوله تعالى:
وإذا كان الأمر متساويا والحنث وعدمه سواء في الإثم، فالأفضل حفظ اليمين.
كذلك من حفظ اليمين إخراج الكفارة بعد الحنث، والكفارة واجبة فورا، لأن الأصل في الواجبات هو الفورية، وهو قيام بما تقتضيه اليمين.
والكفارة: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهذا على سبيل التخيير، فمن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، وفي قراءة ابن مسعود متتابعة.
فحفظ اليمين له ثلاث معاني:
1- 1- حفظها ابتداء، وذلك بعدم كثرة الحلف، وليعلم أن كثرة الحلف تضعف الثقة بالشخص وتوجب الشك في أخباره.
2- 2- حفظها وسطا، وذلك بعدم الحنث فيها، إلا ما استثنى كما سبق.
3- 3- حفظها انتهاء، في إحراج الكفارة بعد الحنث.
ويمكن أن يضاف معنى رابع، وهو أن لا يحلف بغير الله، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمي القسم بغير الله حلفا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
]
قوله: (الحلف). المراد به الحلف الكاذب، كما بينته رواية أحمد:
]، أما الصادقة، فليس فيها عقوبة، لكن لا يكثر منها كما سبق.
قوله: (منفقة للسلعة). أي: ترويج للسلعة، مأخوذ من النفاق وهو مضي الشيء ونفاذه، والحلف على السلعة قد يكون خلفا على ذاتها أو نوعها أو وصفها أو قيمتها.
الذات: كأن يحلف بأنها من المصنع الفلاني المشهور بالجودة وليست منه.
النوع: كأن يحلف أنه من الحديد، وهي من الخشب.
الصفة: كأن يحلف أنها طيبة، وهي رديئة.
القيمة: كأن يحلف أن قيمتها بعشرة، وهي بثمانية.
قوله: (ممحقة للكسب). أي: متلفة له، والإتلاف يشمل الإتلاف الحسي بأن يسلط الله عليه على ماله شيئا يتلفه من حريق أو نهب أو مرض يلحق صاحب المال فيتلفه في العلاج، والإتلاف المعنوي بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به دينا ولا دنيا، وكم من إنسان عنده مال قليل، لكن نفعه الله به ونفع غيره ومن وراءه، و كم من إنسان عنده أموال لكن لم ينتفع بها صار - والعياذ بالله- بخيل يعيش عيشة الفقراء وهو غني، لأن البركة قد محقت.
وعن سلمان؛ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
]. رواه الطبراني بسند صحيح.
* * *
قوله: (ثلاثة). مبتدأ، وسوغ الابتداء بها أنها أفادت التقسيم.
قوله:
]، أي قدرته.
فالكلام عند الإطلاق لا يكون إلا بحرف وصوت مسموع.
واختلف الناس في كلام الله إلى ثمانية أقوال كما ذكره ابن القيم في (الصواعق المرسلة).
لكن إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأخذنا منها عقيدتنا صافية، وقطعنا النظر عن هذه المجادلات لأنه ما أوتى الجدل قوم إلا ضلوا، علمنا أن كلام الله حقيقي يسمع، ولكن الصوت ليس كأصوات المخلوقين، أما ما يسمع من كلام الله، فلا شك أنه بحروف لا تشبه الحروف التي يتكلم بها المخاطب لم يفهم كلامه أبدا، فالحروف التي تسمع هي حروف اللغة التي يخاطب الله بها من يخاطبه، والله - عز وجل يخاطب كل أحد بلغته.
ونفي الكلام هنا دليل على إثبات أصله، لأن لما نفاه عن قوم دل على ثبوته لغيرهم.
وبهذه الطريقة استدل بعض أهل العلم على إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين بقوله تعالى:
ولا يلزم من كلامه - سبحانه - أن يكون له آلة كالآدمي، كاللسان، والأسنان، والحلق، وما أشبه ذلك، كما لا يلزم من سماع الله أن يكون له أذن، فالأرض مثلا تسمع وتحدث وليس لها لسان ولا آذان، قال تعالى:
فإن قيل: (إن الله يكلم من هو أعظم منهم جرما وهم أهل النار؟
فالجواب: أن المراد بنفي الكلام هنا كلام الرضا، أما كلام الغضب والتوبيخ، فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه.
قوله: (ولا يزكيهم). التزكية: بمعنى التوثيق والتعديل، فيوم القيامة لا يوثقهم، ولا يعدلهم، ولا يشهد عليهم بالإيمان، لما فعلوه من هذه الأفعال الخبيثة.
قوله:
وقوله: (أشيءمط). هو الذي اختلط سواد شعره ببياضه لكبر سنه، وكبير السن قد بردت شهوته، وليس فيه ما يدعوه إلى الزنى، لكن زنى مما دل على خبث إرادته، ولأنه عادة قد بلغ اشده واستوى وعرف الحكمة، وملكه عقله أكثر من هواه، فالزنى منه غريب، إذ ليس عن شهوة ملحة، ولكن عن سوء نية وقصد وضعف إيمان بالله، فصار السبب المقتضي لزناه ضعيفا، والحكمة التي نالها ببلوغ الأشد كبيرة، وكأن تقادم سنه يستلزم أن يغلب جانب العقل، لكنه خالف مقتضى ذلك، ولهذا صغره تحقيرا لشانه، فقال: (أُشيءمط) تصغير أشمط.
قوله (زان) صفة لأشيءمط، وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة، والحركة التي تدل على النون ليست حركة إعراب.
والزنى فعل الفاحشة في قبل أو دبر، وقد نهى الله عنه وبين أنه فاحشة، فقال:
قوله: {عائل مستكبر}. أي: فقير، قال تعالى:
والاستكبار: الترفع والتعاظم، وهو نوعان:
- استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به.
- واستكبار على الخلق باحتقارهم و استذلالهم، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
].
فالفقير داعي الاستكبار عنده ضعيف، فيكون استكباره دليلا على ضعف إيمانه وخبث طويته، ولذلك كانت عقوبته أشد.
قوله:
أي: جعل الحلف بالله بضاعة له، وإنما ساغ التأويل هنا، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي فسره بذلك،حيث قال:
]. فقوله:
وإن كان كاذبا جمع بين أربعة أمور محذورة:
1- استهانته باليمين ومخالفته أمر الله بحفظ اليمين.
2- كذبه.
3- أكله المال بالباطل.
4- 4- أن يمينه غموس، وقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:
يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال أمري مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)
].
وكل ما في هذا الحديث يجب الحذر منه والبعد عنه، لأن هذا ما يريده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإخبار به، وإلا، فما الفائدة من سماعنا له إذا لم تظهر مقتضيات النصوص على معتقداتنا وأقوالنا وأفعالنا؟ فنحن والجاهل سواء، بل نحن أعظم، ولذلك ينبغي أن تمر علينا بلا فائدة فنعرف معناها فقط، بل يجب أن نعرف معناها ونعمل بمقتضاها، ثم يجب علينا أيضا بوصفنا ممن آتاهم الله العلم أن نُحذر الناس منها لنكون وارثين للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عالما عاملا داعيا، أما طالب العلم، فإنه ليس وارثا للرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقوم بما قام به العمل من العمل والدعوة، فعلينا أن نحذر إخواننا المسلمين من هذا العمل الكثير بين الناس، وهو جعل الله بضاعة لهم، لا يبيعون إلا بأيمانهم ولا يشترون إلا بأيمانهم.
أن من الله بضاعته، فإن الغالب أنه يكثر الحلف بالله - عز وجل -.
* * *
وفي الصحيح عن عمر ابن حصين رضي الله عنه فال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم:
قوله: (وفي الصحيح). أي: (الصحيحين)، وانظر كلامنا: (ص 146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (خير أمتي قرني). (خير): مبتدأ، و(قرني): خبر.
وفي لفظ لهما:
]، وفي الحديث ابن مسعود عند البخاري:
وعليه فالخيرية في القرن الأول خيرية عامة على جميع الناس وليس على هذه الأمة فقط.
وأما قوله (خير أمتي). فإنه يقال: إن الخيرية إذا كانت مضافة إلى عموم الناس دخل فيها هذه الأمة، لكن إذا خصصنا بهذه الأمة خرج بقية الناس، والأخذ بالعموم الداخل فيه الخاص أولى، وقد يقال: إن معنى واحد، فإن هذه الأمة خير الأمم، فإذا كان الصحابة خير قرونها لزم أن يكونوا خير الناس.
والقرن مأخوذ من الاقتران، والمراد:الطائفة المقتنون بشيء من الأشياء،كالملة، أوما أشبه ذلك.
فمن العلماء من عرفه: بالطائفة كما سبق، ومنهم من عرفه بالزمن، وهؤلاء اختلفوا فيه على أقوال:
فمنهم من حده بأربعين، ومنهم من حده بثمانين، ومنهم من حده بمائة، ومنهم من حده بمئة وعشرين سنة.
فعلى الأول يكون معنى:
فقرن الصحابة إن ابتدأته من البعثة صار ثلاثا وثلاثين ومائة سنة، وإن ابتدأته من الهجرة صار عشرين ومائة سنة.
وقرن التابعين ستون سنة.
وقرن تابعي التابعين أربعون سنة.
وقال شيءخ الإسلام ابن تميمة: إن القرن معتبر بمعظم الناس، فإذا كان معظم الناس الصحابة، فالقرن قرنهم، وإذا كان معظم الناس التابعين، فالقرن قرنهم، وهكذا.
قوله: (أمتي) المراد أمة الإجابة، لأن أمة الدعوة إذا لم يؤمنوا فليس فيهم خير.
قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا) . إذا كان عمران لا يدري، فالأصل أنه ذكر مرتين، فتكون القرون المفضلة ثلاثة، وهذا هو المشهور.
قوله: (ثم إن بعدكم قوم). وفي رواية البخاري: ثم إن بعدكم قوما) بنصب (قوما)، وهذا لا إشكال فيه، ولكن في هذه الرواية برفع (قوم) فيه إشكال، لأن (قوم) اسم إن، وقد اختلف العلماء في هذا:
فقيل على لغة ربيعة: الذين لا يقفون على المنصوب بالألف، فلم يثبت الكتاب الألف فصارت (قوم).
وهذا جواب ليس بسديد، لأن الرواية ليست مكتوبة فقط، بل تقرأ باللفظ عند أخذ التلاميذ الرواية من المشايخ، ولأن هذا ليس محل وقف.
وقيل: إن (إن) اسمها ضمير الشأن محذوف، إلحاقا لها بإن المخففة، لأن (إن) تعمل بضمير الشأن، قال الشاعر:
فإن المشددة هنا حملت على إن المخففة، فاسمها ضمير الشأن محذوف،وعليه يكون (بعدكم): خبر مقدم، و(قوم): مبتدأ مؤخر، والجملة خبر (إن).
وقيل (إن) هنا بمعنى نعم، فيكون المعنى: ثم نعم بعدكم قوم، وهذا فيه تكلف.
والظاهر: القول الثاني إن صحت الرواية.
قوله: (يشهدون). أي: يخبرون عما علموه مما شاهدوه أو سمعوه أو لمسوه أو شموه، لأن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلم، قال تعالى:
قوله: (ولا يستشهدون). اختلف العلماء في معنى ذلك:
فقيل: (لا يستشهدون)، أي: لا يطلب منهم تحمل الشهادة فيكون المراد الذين يشهدون بغير علم الله فهم شهداء زور.
وقيل: لا يطلب منهم أداء الشهادة، فيكون المراد أداء الشهادة قبل أن يدعى لأدائها، فيكون ذلك دليلا لتسرعهم في أداء الشهادة وعدم اهتمامهم بها.
ولكن هذا القول يشكل عليه حديث زيد بن خالد الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد: من يشهد بشيء من حقوق الله تعالى، لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب، فيؤدي الشهادة من غير أن يسألها، فيكون المراد بهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهم.
وجمع بعضهم بأن المراد بحديث زيد بن خالد أنه كناية عن السرعة بأداء الشهادة، فكان لشدة إسراع بأداء الشهادة، فكان لشدة إسراعه يؤديها قبل أن يسألها.
وبعض العلماء رجح حديث عمران، لأنه في (الصحيحين) على حديث زيد بن خالد، لأنه في (مسلم).
ولكن إذا أمكن الجمع، فلا يجوز الترجيح لأن مقتضاه إلغاء أحد النصين، والجمع هنا ممكن كما تقدم.
قوله: (يخونون ولا يؤتمنون). هذا هو الوصف الثاني لهم، أي: أنهم أهل خيانة وليس أهل أمانة، فلا يأتمنهم الناس، وليس المعنى أن تقع منهم الخيانة بعد الائتمان حتى يقال: لماذا لم يقل: يؤتمنون ويخونون؟ فكأن الخيانة طبيعة لهم، فلخيانتهم لا يؤتمنون.
الخيانة: الغدر والخداع في موضع الائتمان، وهي من الصفات المذمومة بكل حال.
وأما المكر والخديعة، فهي مذمومة في حال دون حال، فقد تكون محمودة إذا كانت في مقاتلة عدو ماكر خادع لدلالتها على القوة والإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر، ولهذا يوصف الله - سبحانه وتعالى - بالمكر والخداع في الحال التي يكون فيها مدحا، قال تعالى:
وأما الخيانة فلا يوصف الله بها أبدا، لأنها ذم بكل حال، ولهذا كان قول العامة: خان الله من خان حراما، لأنهم وصفوا الله بما لا يصح أن يوصف به، قال الله تعالى:
قوله: (ولا يؤتمنون). أي: ليسوا أهلا للأمانة، فلا يؤتمنون على الدماء ولا على الأموال، ولا على الأعراض، ولا أي شيء، والظاهر أن هذا في القرن الرابع، فما بالك بالقرن الخامس عشر؟ وفي حديث آخر (ويفشو بينهم الكذب)
قوله (وينذرون ولا يوفون). هذا الوصف الثالث لهم. النذر: إلزام الإنسان نفسه بالشيء، وقد يكون للآدمي، وهذا بمعنى العهد الذي يوقعه الإنسان بينه وبين غيره، وقد يكون لله، كنذر العبادة يجب الوفاء به، فهم ينذرون لله ولا يوفون له، ويعاهدون المخلوق ولا يوفون له، وهذا من صفات النفاق.
قوله: (ويظهر فيهم السمن). هذا هو الوصف الرابع لهم، كثرة الشحم واللحم، وهذا الحديث مشكل، لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان فكيف يكون صفة ذم؟
قال أهل العلم: المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف، فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها.
أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه، فلا يذم عليه، كما لا يذم الإنسان على كونه طويلا أو قصيرا أو أسود أو أبيض، لكن يذم على شيء يكون هو السبب فيه.
وفيه عن ابن مسعود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
قوله: (وفيه). أي: (في الصحيح) وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة من المؤلف رحمه الله. انظر: (ص146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (خير الناس) دليل على قرنه خير الناس، فصاحبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل من الحواريين الذين هم أنصار عيسى، وأفضل من النقباء السبعين الذين اختارهم موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: (ثم يجي قوم). أي: بعد القرون الثلاثة.
قوله: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته). يحتمل ذلك وجهين:
الأول: أنه لقلة الثقة بهم لا يشهدون إلا بيمين، فتارة تسبق الشهادة وتارة تسبق اليمين.
الثاني: أنه كناية عن كون هؤلاء لا يبالون بالشهادة ولا باليمين، حتى تكون الشهادة واليمين في حقهم كأنهم متسابقتان.
والمعنيان لا يتنافيان، فيحمل عليهما الحديث جميعا.
وقوله: (ثم يجي قوم) يدل على أنه ليس كل أصحاب القرن على هذا الوصف، لأنه لم يقل: ثم يكون الناس، الفرق واضح.
وهذه الأفضلية أفضلية من حيث العموم والجنس، لا من حيث الأفراد، فلا يعني أنه لا يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل التابعين، أو لا يوجد في التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة، أما فضل الصحبة، فلا يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه، وأما العلم والعبادة، فقد يكون فيمن بعد الصحابة من أكثر من بعضهم علما وعبادة.
*تنبيه:
ساق المؤلف رحمه الله الحديث في بعض النسخ بتكرار قوله: (ثم الذين يلونهم) ثلاث مرات، وهو في (الصحيحين) بتكرارها مرتين.
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار [البخاري: كتاب الشهادات / باب لا يشهد على جور، ومسلم: كتاب كتاب فضاءل الصحابة / باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم.].
* * *
قوله: (وقال إبراهيم). هو إبراهيم النخعي، من التابعين ومن فقهائهم.
قوله: (كانوا يضربوننا على الشهادة ونحن صغار) في نسخة: (على الشهادة والعهد)، والظاهر أن الذي يضربهم ولي أمرهم.
قوله: (على الشهادة) أي: يضربوننا عليها إن شهدنا زورا، أو إذا شهدنا ولم نقم بأدائها، ويحتمل أن المراد بذلك ضربهم على المبادرة بالشهادة والعهد، وبه فسر ابن عبد البر.
قوله: (والعهد). أي: إذا تعاهدوا يضربونهم على الوفاء بالعهد.
قوله: (ونحن صغار) الجملة حالية، وإنما يضربونهم وهم صغار للتأديب.
ويستفاد من كلام إبراهيم أن الصبي تقبل منه الشهادة، لأن قوله: (ونحن صغار)، أي: لم يبلغوا، وهذا محل خلاف بين أهل العلم.
فقال بعضهم: شهادة الصغار بعضهم على بعض مقبولة تحملا وأداء، لأن البالغ يندر أن يوجد بين الصغار.
وقال بعضهم: تقبل شهادة الصغار بعضهم على بعض إن شهدوا في الحال، لأنه بعد التفرق يحتمل النسيان أو التلقين، ولا يسع العمل إلا بهذا، وإلا لضاعت حقوق كثيرة بين الصبيان.
ويستفاد من هذا الأثر جواز ضرب الصبي على الأخلاق إذا لم يتأدب إلا بالضرب.
* * *
فيه مسائل:
* الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. تؤخذ من قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} والأمر وصية.
* الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة. تؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (الحلف منفقة للسلعة...) إلخ.
* الثالثة: الوعيد الشديد لمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. تؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
* الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. تؤخذ من حديث سلمان، حيث ذكر الأشيءمط الزاني والعائل المستكبر، وغلظ في عقوبتهم، لأن الداعي إلى فعل المعصية المذكورة ضعيف عندها.
* الخامسة: ذم الذين يحلفون و لا يستحلفون. لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلف ولم يستحلف في مواضع عديدة، بل أمره الله - سبحانه وتعالى أن يحلف في ثلاثة مواضع من القرآن بدون أن يستحلف
وفي قوله:
وفي قوله:
وفي قوله:
وعليه، فإن الحلف إذا دعت الحاجة إليه أو اقتضته المصلحة، فإنه جائز، بل يكون مندوبا
إليه، كحلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصة المخزومية، حيث قال:
] ، فقد وقع موقعا عظيما من هؤلاء القوم الذين أهمهم شأن المخزومية وممن يأتي بعدهم.
* السادسة: ثناؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث بعدهم تؤخذ من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
وقوله: (ذكر ما يحدث). لو جعلت هذه المسألة مستقلة، لكان أبين وأوضح، لأن الأخبار عن شيء مستقبل ووقوعه كما أخبر دليل على رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
* السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون. تؤخذ من حديث عمران، وكذا ذم الذين يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، والذين يتعاطون أسباب السمن ويغفلون عن سمن القلب بالإيمان والعلم.
* الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. تؤخذ من قول إبراهيم النخعي:
الأول: أن يكون الصغير قابلا للتأديب، فلا يضرب من لا يعرف المراد بالضرب.
الثاني : أن يكون التأديب ممن له ولاية عليه.
الثالث: أن لا يسرف في ذلك كمية أو كيفية أو نوعا أو موضوعا أو غير ذلك.
الرابع: أن يقع من الصغير ما يستحق التأديب عليه.
الخامس: أن يقصد تأديبه لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام، لم يكن مؤدبا بل منتصر.
* * *
|